الأحد، 4 أبريل 2010

النجع




النجع أسرات ومجتمع متضامن متعاون متراحم لا اعتداء ولا نداء يميد عن الذوق وقلة الحياء والرجل ينام مع الضباع ويستيقظ مع الطيور يتفقد المحيط وكل الأمكنة يحصد يحرث والحصاد والحرث أيام وشهور وتنظيف التربة في موسم الخريف وأعمال ثانوية كجلم الماعز والضأن وبناء الزرائب للدواب وصناعة وتنجير الأدوات الخشبية والتسوق فهو راعي مسئول والولد يشب ويصير يافعاً يكلفونه رعي الدواب والانضمام إلي الأسرة في ساعات العمل كالحصاد والحرث وكل ما يتعلق بالفلاحة هذا باستثناء النظر إلي نفسه والتأنق فترتفع قمة القبعة لتعتدل وتميل للأمام مع الانكفاء القليل لإحدى الجنبات دافراً النوازع ليتطلع بين المد والجزر لعوا رف الأعراف . والفتاة كبرت ونضجت ترتدي الملبس الذي يتناسب سن النسوة والاختباء وراء الأروقة والتكلف في زيادة السواتر والتخفي والاهتمام بشئون البيت ومساعدة الأم وكانت المرأة تنهض قبل أن يجنح النجم واستكان الهوا لع وقبل أن ينعب الغراب واندساس الخفافيش في مهادها ونشود الطير وينام الذئب بعين واحدة يداً تمسك القدح ويداً تعصر الضرع تشخب حليب يفيض بالرغوة من الحواف والمرأة قارورة هي ثلثي الحياة للرجل في نجوع البادية تحمل وتنجب طفلاً تربيه بصدرها الحاني يتدفق الحليب وفي غالب أعوامه الأولى آوته محمولاً في لفات الرداء .. والطهي وإعداد الاطعمه والنظافة والترتيب داخل وخارج البيت وتقوم بجلب الماء والحطب وإشعاله وقد يأتيها المخاض في أداء واجب من واجباتها .. شغل الحلب والمخض وطحن الحبوب وعجن العجين وخبزه ودبغ الجلود والغزل والبرم والنسج فهي القوة وراء الرجل ومساعدته في أعمال كثيرة ودائوبه . وأمثال هذه النسوة كسبن الصحة لم تكن المرأة اليوم قابعة في البيت العصري تعيش عيشة مترفة سلبتها الصحة والعافية فأنتكبت بالمصائب والأمراض .. المرأة قارورة والقارورة لو بقت على حالها دون محرك أمين تتغبش ويذهب البريق أما الحركة المتواصلة وبأمان جلاء لجسم القارورة من الغبش ويزيد من البريق واللمعان .
النجع يتوافر فيه التطبيب واختيار الأعشاب الطبية والمعالجات من كي وحجامة وتجبير الكسور والختان والأطباء التقليديين وان لم يكن في النجع ففي النجوع المجاورة .. والنسوة القابلات التي يشرفن على ولادة الحامل وتيسير الانفصال ونسوة خبيرات في تطبيب الأطفال المصابون في الحلوق وأعراض هذا المرض الحرارة والبكاء والتقيؤ المستمر والإسهال يصيب الرضع وأسلوب المعالجة تمسيد الرقبة .. ومرض القعقوص تصيب الطفل الزاحف وهو يحاول الوقوف وتعلم المشي وفي أثناء التعلم يتعرض للوقوع الدائم على المؤخرة فيصاب بعطل في مؤخرته يصاحبه إسهال وقيء والعلاج تمسيد المؤخرة في أدنى الفقرات الظهرية للطفل .. والرضيع ينفصل من رحم أمه إلي رحم الكون في أكناف الأمومة في الحضن يرضع الحليب بدرجة محفوظة لا بدرجة السخونة العالية أو الباردة انه حليب دافئ مقرون بحنان وقلب نابض ورائحة التواصل والحركة فينموا متزن النفس والبدن وبنشأة صحيحة وانتماء مخلص للبلد والوطن كل هذا لبنه من لبنات وحدة الناس والشعب الأصيل .. العادة والبساطة في النجع وعروسه ملفوفة في طيات الألبسة الكثيرة على متن جمل يقاد من مخطمة بين صهيل وخبب الخيول وطلقات النار والزغاريد وتناوب غناوي العلم وقفزات الرطيز والعريس يزهو بهذا التعريس وإرباك يعلو وجهه وتشنج في الخطى بين الموكب الجماعي يظللونه بقماش ويصفقون مرددين شتاوة :- يا سلطان المال عطيته .. جبت اللي متعلي صيته . رفعت الجماعة خباء البيت وانفلت العريس المرتبك إلي الداخل وأتم العمل على خير وجه برميه للمنديل ثم جفل كالملسوع .
وفي المآتم كانت النسوة يتحلقن متماسكات يتداولن ارتجاز الكلمات المعبرة للمصيبة والفواجع المرعشة للأبدان عويل وصراخ وامرأة من بعيد تلطم وتنثر التراب في السماء والوجه مفزوع مخيف مولولة وانضمت للحلقة وامتزجت وجنتيها المسلوختين بالغبار ثم صرخت وجلست برجل ممدودة والأخرى منثنية وممسكة بطرف الرداء تكمم الوجه وشرعت في بكاءها المرير واختنقت بالنشيج والعبرات الأليمة .. وفي مساءات النجوع على جمرات هادئة في حفرة بصحن البيت بين الجوابر تصطلي الأسرة تتناظر الأحاجي ويلاعب الكبير الصغير بإمساك يد الصغير واضعاً ظهر كف الصغير في بطن كفه .. دباخ .. دباخ .. الخ . وقصص الغيلان المخيفة والقضاء عليها وطائر الحجل المفلوت من بين أنياب الذئب فقال الذئب مقالته الخسيسة والفاقد للأمل أنت صدقه على والدي .. وقصص أم بسيسي وبقرة اليتامى وعبيد البحر والهوا لع المفترسة . ومساءات الشتاء وكآبة السماء والسيول الجارفة والبروق الخاطفة والرعود الهادرة والأبخرة تغمر الروابي والامزان الممتلئة .. وفي أضاحي شمس الربيع وظهيرة وحنين النحل وألوان الورد العاكس لأشعة الشمس تصيب الناظر الممعن بالسكر والهذيان وربما عشاء ليلي .. وأبقار متشنجة تلوي ذيولها تسابق الريح وتتصادم السلاحف وتزعق وشخير الهداهد ونباحه الصادي في غابة مزدحمة .. وليالي الصيف وأصوات الجنادب والصراصير في الخلاء ورائحة القش المتشبع بالطل وصدى طرقات الميجنة في الخريف لدق ثمار قرون الخروب لعصره في القدور المغلية .. والتسلي بجني حب البطوم اللذيذ .. والرجل يملأ صدره هواء ليملأ فمه كلمة غنائية من ملحونات غناوي العلم .. وخليل وتحية السلام والمراهنة والعودة بوجه سبع أو بوجه ضبع سلامك أو صل والحيطة اللي ورآك فيش أتعل .. والراعي قبل أن يغدوا وراء دوابه في المرعى امسك بذيل الشكوة ورفعها وأنكس فوهتها في فمه وأفرغها بشربة واحدة .. وسجع الحمام المهاجر في الشعاب وحمام النيسي في الأودية يصفق بأجنحته بين نتوءات الكهوف المشرعة وجوارح الطير تسود الفضاءات ولطافة الأعشاش الصغيرة المنسوجة بين الأغصان تحوي البيوض وأفراخ تتفتح مناقيرها لاستقبال الفتات .. وفي النجع ديوك مخضبة وأسراب من الدجاج .. وامرأة تمسك بشكوى منتفخة فوق ركبتين عاريتين تخضخض اللبن المرغرغ والقدح ينتظر زبدة المخيض .. من منكهات النجع الجواد المهجر يدور في سلسلته المربوطة يلوح بعرفه الجميل المسترسل وذيله ساحب طويل .. والقاص في أضواء النهار يعد من فصائل الحمير وفي هداءات الليل من فصائل العجول ويتشاءمون من قصة ابوزيد الهلالي الذي اجتاح المدائن والنجوع وعبثت أيديه في تشريد الناس وإبادة الزروع والضروع .. والصغار ينصتون لأفواه تلهج بسرد الحكايا المخيفة فتشحذ نفس الصغير ليتحلى بطابع الشجاعة وإكسابه المناعة ضد الصدمات المرعبة وهي أساليب سجية ولون من ألوان التربية على نهج خراريف تتضمن الاستبسال والحب المميت للوطن في أقسى الظروف .. ومن أفضل الأوقات هي الليالي والصباحات والمساءات وإنصاتها في عمق الخلاء .. جيل النجع لا تحول بينهم والطبيعة أي حائل عن هذه المشاهد وتحيك في النفس الحوار والتفكر إنها بيئة الراعي الذي يصالب ذراعيه فوق العصا الموضوعة بالشكل الأفقي على كتفيه ورائحة الفطر فوق الجمر وماءه المفروز يسيل فيثير سحابة ذرات الرماد المتطاير والبقرة القائمة على أربع هادئة مسكونة والعجل يحاول الإفلات من مربطه وطائر الحجل يحضن بيوضه وإذا اقترب عابر معتدي تتجعد الأم بأجنحة مرعوشة تناور المقترب لجذبه وإبعاده في آن واحد عن مكان البيض والبعض قد يجهل مثل هذه اللعبة .. ترصيص السنابل في أكياس كبيرة ونقلها على ظهور الدواب لجمعها في الأجران ليوم الدرس والآداب العامة لتذرية وجمع محصول القمح والشعير وخلع النعال تقديساً لهذه النعمة إنها حياة الخوالي نستذكرها ننتعش قليلاً ثم بعدها بقليل نتألم كثيراً نعم نتألم لبيئة وسنين وجيل لن يعود ابداً .. أهالينا وأجدادنا وأحبائنا والوجوه التي توارت ووجوه تتوارى .. نحن اليوم لم نكن خارج عصر فيه الناس سكارى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق